من المنتظر أن تخطف شرم الشيخ كل الأضواء مع انطلاق المفاوضات المقررة حول الشروع في تطبيق مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب على غزة. وكان ترامب قد أعلن، أنّ ما هو مطروح لا يطاول فقط غزة إنما السلام على مستوى الشرق الأوسط.
في الواقع إنّ الرئيس الأميركي لا يبالغ ولا يغالي في توصيفه. ذلك أنّ مختلف النزاعات والحروب التي عاشتها ساحات المنطقة، ولا تزال، وأدّت إلى تمزيق البلدان والكيانات، كانت ترتكز في عدد من جوانبها على النزاع الأم في المنطقة، أي القضية الفلسطينية. كما أنّ صعود الدور الإيراني في المنطقة بعد الثورة الإسلامية، إرتكز في أساسه على القضية الفلسطينية والرمزية الدينية للقدس.
ولكن، وبخلاف الصورة المتفائلة التي راجت إثر إعلان حركة «حماس» وقبلها إسرائيل، الموافقة على مبادرة ترامب، إلّا أنّ باطن الأمور يحمل كثيراً من الحذر والتوجس. وعلى ما يبدو ليست حركة «حماس» وحدها من يذهب مرغماً إلى مفاوضات القاهرة، ذلك أنّ الحكومة الإسرائيلية المرحّبة ظاهرياً بورقة ترامب، تبدو في واقع مختلف ضمنياً. فلا «حماس» ولا حكومة نتنياهو راضيتان عن تضييق هامش المناورة لديهما. وهذا ما جعل عدداً من المراقبين يخشون من ظهور مفاجآت غير سارة، مع التذكير دائماً بأنّ الشياطين تكمن في التفاصيل. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أسلوب ترامب المثير للجدل والخارج عن مألوف السياسة الأميركية، فعل فعله هذه المرّة، ولعب لمصلحة دفع فريقي المواجهة إلى القبول بمشروعه والذهاب إلى مفاوضات القاهرة. ومعه قد يصح القول إنّ أسلوب ترامب وشخصيته السياسية (على رغم من فشلهما في التعامل مع معظم الأزمات الدولية) كانا بمثابة الوصفة المثالية للتعامل مع أطراف الشرق الأوسط وزعمائه.
وفي وقت لا حاجة لشرح موقف قيادة «حماس» وإعلانها مرغمة موافقتها على ورقة ترامب، فإنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية يخفي وراء موافقته وابتسامته الصفراء خيبة أمل لمشروعه بتهجير أهل غزة، وضربة لصورته التي أراد أن يحفرها في التاريخ الإسرائيلي. فعدا عن أنّ المشروع السياسي لليمين الإسرائيلي بتهويد غزة نهائياً، فإنّه بات على يقين بأنّ النصر سيخطفه ترامب وليس هو، لا بل إنّ الصحافة الإسرائيلية بدأت تهاجمه وتضرب صورته كزعيم إسرائيلي، عبر قولها إنّ ترامب لا يهدّد نتنياهو بل يأمره. واستطراداً، قد يصح التوصيف هنا أنّ طرفي الحرب، أي إسرائيل و«حماس»، يراهنان على أن يعمد الفريق الآخر على إحباط خطة ترامب، مرّة للتخلص من عبئها، ومرّة أخرى لتحمّل وزر الإنتقام العاصف لترامب.
فقيادة «حماس» تعرف جيداً أنّ معارضيها سيحمّلونها كل مآسي الحرب، كما أنّ «أصدقاءها» سيعتبرون موافقتها خيانة لإيديولوجيتها الدينية والقائمة على المقاومة حتى الشهادة. وفي المقابل ثمة من يعمل على إقناعها بأنّ ما يحصل هو كسب لفسحة من الزمن، تسمح بإعادة تنظيم الصفوف، مع تحقيق مكسب يقضي بإطلاق آلاف السجناء الفلسطينيين. ولكن الخطة المطروحة لإدارة غزة والتي شارك في هندستها طوني بلير وجاريد كوشنر، تتضمن هيكلاً متعدد الطبقات، حيث يكون ديبلوماسيون دوليون ورجال أعمال في القمة، بينما يتولّى الفلسطينيون أمور التنفيذ على الأرض، كما أوردت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية.
ولكن «حماس»، والتي بات هامش رفضها المباشر لورقة ترامب ضيّقاً جداً، قد تكون تراهن على التعقيدات الإسرائيلية. ذلك أنّ رفض «حماس» سيساعد اليمين الإسرائيلي المتطرّف في العودة إلى القتال لتحقيق مشروعه. ولكن هذه المرّة مع تنفيذ ترامب لوعده بدعم إسرائيل ومساعدتها عبر فتح «أبواب الجحيم». لذلك، من المفترض أن يحمل نتنياهو الإتفاق الى حكومته، حيث سيطرحه على التصويت للمصادقة عليه رسمياً، بعد قبول «حماس» به. ومن المرجح أن يعارضه وزيرا اليمين المتطرّف، وأن يعمدا لإعلان انسحابهما من الحكومة، كونهما يتمسكان بمشروع طرد السكان الفلسطينيين من قطاع غزة. لكن زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد كان أعلن في وقت سابق بأنّ حزبه مستعد للدخول إلى الحكومة، وبالتالي إنقاذها من السقوط، وصولاً حتى موعد الإنتخابات المقبلة، بعد نحو سنة من الآن.
ووفق آخر استطلاع أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» وجامعة «سيينا»، ظهر حجم تراجع دعم إسرائيل في الشارع الأميركي، والذي وصل إلى أدنى مستوياته منذ سنوات، في مقابل ارتفاع ملموس في مستوى التعاطف مع الفلسطينيين. فنسبة تعاطف الأميركيين مع إسرائيل وصلت إلى 34% بعدما كانت 47% في كانون الأول الماضي، في مقابل 35% أبدوا تعاطفهم مع الفلسطينيين، بعدما لم تكن النسبة تتجاوز 20% في الإستطلاع السابق. وهو ما يعني أنّ هامش المناورة أمام نتنياهو لم يعد واسعاً.
ويبقى السؤال الأهم حول تداعيات كل هذا الوضع المتشابك على لبنان. بالنسبة إلى «حماس»، فإنّ مجرد التفكير باحتمال قدوم قياداتها المبعدة إلى مخيمات لبنان، بات غير ممكن. فإذا كان صحيحاً أنّ نجاح خطة ترامب سيعني في المفهوم السياسي إخراج إيران من الساحة الفلسطينية، فإنّ اعتماد لبنان كخطة بديلة كما كان يحصل سابقاً لم يعد إحتمالاً قائماً أو واقعياً. فحتى قبل شن إسرائيل حربها على «حزب الله»، ونجاحها في توجيه ضربة قاسية له، وجّهت إسرائيل بالتفاهم مع واشنطن (وكانت يومها إدارة جو بايدن) رسالة تحذير صارمة في هذا الشأن. يومها عمدت إسرائيل إلى استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت للمرّة الأولى من خلال اغتيال القيادي الحمساوي صالح العاروري. وجاءت الرسالة الدموية عقب تداول أفكار تقضي باستقدام قيادات لـ«حماس» إلى لبنان. وجاءت عملية إغتيال العاروري بمثابة رسالة تحذير من القيام بهذه الخطوة. فاعتماد لبنان كقاعدة بديلة، هي وظيفة مضى عليها الزمن. وهو ما ثبت لاحقاً عبر الضربة التي تلقّاها «حزب الله»، والتي استهدفت في البداية الأقسام التي كانت تتولّى الدور الإقليمي لـ«حزب الله» وكانت موجودة في عمق الضاحية الجنوبية.
وفي موازاة ذلك، فإنّ «نزع» سلاح حركة «حماس» في غزة يعني تلقائياً نزع سلاحها في كل مكان، والمقصود هنا بوضوح سلاحها في المخيمات الفلسطينية في لبنان. ومن هذه الزاوية بات يمكن فهم الخطوة التي قامت بها السلطة الفلسطينية في وقت سابق من الآن، والتي قضت بتسليم سلاح الفصائل الفلسطينية الموالية لها. وبالتالي، تصبح الخطوة التالية لنجاح مفاوضات القاهرة، تسليم سلاح «حماس» والفصائل الإسلامية في المخيمات الفلسطينية، وخصوصاً السلاح الثقيل. وهذه الخطوة ستضيق أكثر فأكثر هامش الحركة أمام «حزب الله» لجهة إحتفاظه بسلاحه الثقيل. والأخطر، أنّ نتنياهو الذي سيكون محاصراً داخلياً وسط نزاعه مع اليمين المتشدّد، واتهامه بالفشل في تحقيق الأهداف الضمنية لليمين بطرد الفلسطينيين من غزة، سيجد نفسه مندفعاً للتعويض في لبنان. ولن تتردّد إدارة ترامب في دعمه مجدداً، مرّة لمنحه متنفساً داخلياً هو بأمسّ الحاجة إليه، ومرّة ثانية لاستكمال تحقيق الأهداف التي تؤيّدها واشنطن، والتي تقضي بإخراج نفوذ إيران نهائياً من الحدود الشمالية لإسرائيل، بعد نجاحها بإخراج هذا النفوذ من الساحة الفلسطينية.
لكن كل ذلك يبقى متوقفاً على نجاح مفاوضات شرم الشيخ. أضف إلى ذلك، أنّ ترامب مستعجل لظهور نتائج سريعة، علّ حظوظه بالفوز بجائزة نوبل للسلام تصبح مرتفعة، وهو الطامح بقوة لنيل هذه الجائزة. كذلك هو يريد أن يشكّل نجاح مشروعه بوقف الحرب في غزة، ممراً مريحاً لضمّ السعودية إلى الإتفاقات الإبراهيمية، خصوصاً أنّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان سيزور واشنطن مبدئياً في النصف الأول من تشرين الثاني المقبل.
وفي انتظار انقشاع مشهد شرم الشيخ، يستهلك لبنان الوقت، ولكن على وقع اضطرابات داخلية ونزاعات أهل السلطة. وهو ما يصح وصفها بالزوبعة داخل الفنجان اللبناني، فيما الزوبعة الكبرى ذات العنوان الإقليمي تنتظر مآل حرب غزة.
ملء الوقت الضائع بنزاع أهل السلطة .