إيران هُزمت… نقطة

تكشف تصريحات المسؤولين العسكريّين الإيرانيّين وقادة “الحزب”، لا عمّا تقوله فحسب عن وهم القوّة والاقتدار، بل عمّا تخفيه أيضاً من شعور عميق بالضعف والهزيمة. بينما تتقدّم خطّة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب على أنقاض “طوفان الأقصى”، وتتهيّأ المنطقة لموجة جديدة من الاتّفاقات الإبراهيميّة، وسط توافق دوليّ وإقليميّ غير مسبوق، جدّد قائد فيلق القدس في “الحرس الثوريّ” الإيرانيّ إسماعيل قاآني تنصُّل بلاده من هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل، وقال الشيخ نعيم قاسم إنّ “الحزب” لا يردّ على الضربات الإسرائيليّة اليوميّة “لمنعها من التوحّش”.

لنتخيّل للحظة أنّ “حماس” انتصرت. هل كان موقف إيران ليكون بهذا الزهد وهذه الدقّة العملياتيّة حول من علم ومن لم يعلم بدقائق الهجوم؟ لنتخيّل للحظة أنّ نعيم قاسم في وضع عسكريّ مختلف، ولم تتحطّم بنية حزبه البشريّة واللوجستيّة، هل كان ليقدّم لنا “الصبر الاستراتيجيّ” كحكمة تستعدي الإشادة والتهنئة أم كان ليصدّع رؤوسنا بـ”جدوى الردع” و”رعب الإسرائيليّ” و”ارتباك العدوّ”!!!

تفتح تصريحات قاآني وقاسم نوافذ تطلّ على واقع التآكل البنيويّ لمشروع استراتيجيّ طموح بنَته إيران على مدى أربعة عقود. هي اعترافات غير مباشرة بفشل نموذج “المقاومة الشاملة”، و”وحدة الساحات”، التي بحسب قآاني يغنّي كلّ من فيها على ليلاه. اعتراف بوهم قوّة الردع التي تمثّلها الميليشيات الملحقة بالحرس الثوريّ، وإفلاس خطاب “الممانعة”، وانكشاف الفجوة الهائلة بين الادّعاء والقدرة، بين الخطاب الدعائيّ والواقع الميدانيّ.

النأي بالنّفس عن الهزيمة

صحيح أنّه سبق لإيران أن تنصّلت أكثر من مرّة من “طوفان الأقصى”، لكنّها ظلّت، في الوقت نفسه، تمانع اتّفاقات وقف إطلاق النار حتّى بلسان المرشد علي خامنئي. وعليه فإنّ إعادة التذكير الآن، ليست أكثر من محاولة للنأي بالنفس عن الهزيمة القاصمة التي تتهيّأ “حماس” لتجرّعها، ولأنّ الهجوم الذي قيل يومها إنّه ردٌّ على مسارات السلام الشامل في الإقليم، وإفشال متعمّد لمخطّطات التطبيع، تُبنى في خواتيمه صفحات سلام إضافيّة لم ينجح “الطوفان” في منعها.

الصورة قاتمة كيفما نُظر إليها. إمّا أنّ إيران أمام قائد ضعيف لا يسيطر على محوره، أو أنّنا أمام دولة تقود محوراً مع كامل الجهوزيّة للتخلّي عن حلفائها حين تشتدّ الأزمة.

كيف يمكن لإيران أن تدّعي قيادة “محور المقاومة” عندما تتبرّأ من أكبر عمليّة عسكريّة نفّذها المحور، وتتوقّع أن تحفظ المصداقيّة الاستراتيجيّة للمشروع الإيرانيّ؟ كيف يمكن للفصائل الأخرى، أو على نحو أدقّ لجماهير هذه الفصائل، حتّى لو لم تصرّح بذلك، أن تطمئنّ لدعم استراتيجيّ من قوّة تتنصّل من مسؤوليّاتها؟

هذه أسئلة لا تمليها المساجلات السياسيّة مع إيران وأدواتها، بل هي تحدّيات وجوديّة تواجه المحور وقيادته العليا، بشأن معنى وجدوى ومتانة هذا التحالف.

انقلاب على الأيديولوجية

أمّا قول نعيم قاسم إنّ “الحزب” لا يردّ على الاعتداءات الإسرائيليّة “لئلّا يسمح لإسرائيل بالتوحّش أكثر”، فيفصح عمّا هو أبعد من التعثّر والفشل، ليصل إلى حدود الانقلاب على المفاهيم الأساسيّة التي قامت عليها أيديولوجية “الحزب”. نحن بإزاء تنظيم بنى شرعيّته على “الردع” و”المواجهة” و”عدم الخوف من التضحية”، وهو يبرّر الآن عجزه عن المواجهة، بالخشية من “التوحّش الإسرائيليّ”، في حين أنّ “الحزب” نفسه يتوحّش على الدولة اللبنانيّة وحكومتها ورئيس الحكومة.

لنتذكّر أنّ جوهر ما يُسمّى “النصر الإلهيّ” في حرب 2006، والذي استند إليه “الحزب” كأساس لشرعيّته العسكريّة في الداخل اللبناني، يقوم على معادلة بسيطة: كلّ اعتداء إسرائيليّ سيقابَل بردّ فوريّ ومؤلم، وهذا الردّ هو ما يحقّق “الردع” ويحمي لبنان. كلام قاسم يعلن انهيار هذه المعادلة تماماً، في ضوء الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة والمتصاعدة، والتي تُقابَل بحكمة “الصبر الاستراتيجيّ”.

الترجمة الواقعيّة لكلام قاسم هي أنّه اعتراف صريح بضعف “الحزب” العسكريّ، بعد أن خسر آلاف المقاتلين في حرب 2024، وتعرّضت بنيته العسكريّة والصاروخيّة لضربات مدمّرة. هو لم يعد يملك القدرة على خوض مواجهة جديدة من دون المخاطرة بالانهيار التامّ. لكن بدل أن يُوظّف هذا الضعف لاجتراح تسوية في الداخل، يتنازل “الحزب” أمام إسرائيل ويتطاول على شركائه في الوطن بأعلى درجات النزق والعجرفة.

لعل أهمّ الخلاصات من تصريحات قاآني وقاسم وتناقضات خامنئي هو انهيار البنية الأيديولوجيّة لـ”محور المقاومة”. بُني هذا المحور على قاعدة الوضوح الأيديولوجيّ، الذي يتبنّى المواجهة الشاملة مع إسرائيل والغرب، ومقاومة “التسويات”، استعداداً “للنصر النهائيّ”. لكن في لحظة فارقة مثل اللحظة الراهنة، يختلط الضعف بالبراغماتيّة ومواجهة الهزيمة بمنطق التنصّل والانتهازيّة.

تفكّك المحور

عليه، من الصعب بعد الآن الترويج لـ”محور المقاومة” ككيان متماسك، في حين تظهره الوقائع شبكة هشّة من العلاقات التي تختلط فيها المصالح بحاجات التمويل والقناعات الأيديولوجيّة.

لم تطرأ هذه الهشاشة الآن. هي معطى بنيويّ، في صلب تكوين المحور الذي يفتقر إلى التماسك الحقيقيّ، ورؤية استراتيجيّة موحّدة، وآليّات تنسيق فعّالة.

لعقود، نجح “محور المقاومة” في بناء سرديّة قويّة: “النصر الإلهي” في 2006، “الصمود” في سوريا، “طوفان الأقصى” في 2023. لكنّ هذه السرديّة كانت دائماً أكبر من الواقع. الانتصارات كانت محدودة، الخسائر كانت فادحة، والمكاسب الاستراتيجيّة كانت هشّة.

إنّ أفضل ما في اللحظة الراهنة هو انهيار مصداقيّة المحور، ليس فقط أمام الخصوم وحسب، بل أمام الحلفاء والجمهور المؤيّد.

استثمرت إيران أربعة عقود من عمر الشعب الإيراني وشعوب المنطقة، ووظّفت موارد هائلة لبناء نفوذ إقليميّ عبر “محور المقاومة”. لكنّ النتيجة الماثلة أمامنا اليوم هي هزيمة عسكريّة متعدّدة الجبهات، وعزلة دوليّة متزايدة، وعقوبات اقتصاديّة مدمّرة متجدّدة، وفقدان الشرعيّة الشعبيّة في الشارع العربيّ، ونضوج تحالفات إقليميّة ضدّها حتى ولو غُلّفت بعكس ذلك.

ما يقوله قاآني وقاسم بكلمات كثيرة تقوله الوقائع بعبارة بسيطة. إيران هُزمت.

إيران هُزمت… نقطة .